دواء سيد المرسلين لداء المترفين

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل وسلم على نبينا محمد
اسعد الله جميع اوقاتكم بالخير

دواء سيد المرسلين لداء المترفين

إنَّ من أخطر الأدواء التي تُودِي بحياة أُمَّة من الأُمم – ولا سيَّما الثريَّة منها – هو التَّرف، كما أنه سببٌ رئيس لسقوط كثيرٍ من الدول والشعوب، فهو الداء العُضال، والمرض القتَّال، والمَقت والوَبال، الذي يَقتل النَّخوة، ويَقضي على البطولة، ويُخمد الغَيْرة، ويُفرز الوَهَن، ويَكبت المُروءة، ويُضعف الهِمَّة، ويُفْرز غُثاءً كغُثاء السَّيْل، فإن استَشْرى في أُمَّة، ذهَب بعزِّها، وأَوْرَثها كسلاً وخمولاً، ورُكونًا إلى الدنيا، ومحبَّة لها، وحِرصًا عليها، فلا يُرتجى منها نفعٌ، ولا يُنتظر منها دفاعٌ عن الحق، حتى إذا اسْتَغاث المُستضعفون والمَحرومون في الأرض، لَم يَجدوا لنُصرتهم ذا مُروءةٍ.

فحقوق الله تُنتهَك، وحدوده تُتجاوز، وأوامره تَضيع، ويُطعن في رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قصصًا وروايات، ونَظمًا ونثرًا، ويُرْكَن إلى الظَّلَمة، ويُحارب الله، وتُثْقَل الكواهل بالديون، ويُؤكَل بالدِّين، ومن أعظم الأسباب لهذا كلِّه هو التَّرف.

ولقد أخَذ الترفُ بألباب كثيرٍ من المسلمين اليومَ وعقولهم، حتى صاروا عبيدًا له، وأصبَحوا يرون أنَّ تعاليم الإسلام وأحكامه تُشَكِّل عبئًا ثقيلاً عليهم، وحاجزًا منيعًا بينهم، وبين التمتُّع بمباهج الدنيا وشَهواتها؛ لذا يجب علينا أن نَنظر إلى حياة سيِّد المرسلين – صلَّى الله عليه وسلَّم – وهو يعالج التَّرف والمُترفين بأقواله وأفعاله؛ ليَخرج بالأُمَّة إلى بَرِّ النجاة في الدنيا والآخرة، فهو – لا غيره – القائد والمُعَلِّم والقدوة، والتأسِّي ببعضسُننه في العيش والحياة فيه الخير والبركة؛ فعن أبي هريرة قال: "ما شَبِع آلُ محمدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم – من طعامٍ ثلاثةَ أيام، حتى قُبِض"[1].

وقال النُّعمان بن بَشير: "لقد رأيتُ نبيَّكم – صلَّى الله عليه وسلَّم – وما يَجد من الدَّقَل – رَديء التَّمر – ما يَملأ به بطنه"[2].

وعن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت لعُروة ابن أُختها: "إنَّا كنَّا لنَنظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أَهِلَّة في شهرين، وما أُوقِدت في أبيات رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – نارٌ، فقلتُ: يا خالة، ما كان يُعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر، والماء"[3].

وعن أبي هريرة قال: خرَج رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – ذات يوم أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ((ما أخْرَجكما من بيوتكما هذه الساعة؟))، قالا: الجوع يا رسول الله، قال: ((وأنا والذي نفسي بيده، لأَخْرَجني الذي أخْرَجكما، قُوموا))، فقامُوا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمَّا رَأَته المرأة، قالت: مَرحبًا وأهلاً، فقال لها رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أين فلان؟))، قالت: ذهَب يَستعذب لنا من الماء؛ إذ جاء الأنصاري فنظَر إلى رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – وصاحِبَيْه، ثم قال: الحمد لله، ما أحدٌ اليوم أكرمَ أضيافًا مني، قال: فانطَلَق فجاءَهم بعِذْق فيه بُسر وتَمرٌ ورُطَبٌ، فقال: كُلوا من هذه، وأخَذ المُدْيَة، فقال له رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إيَّاك والحلوبَ))، فذَبَح لهم، فأَكَلوا من الشاة، ومن ذلك العِذْق، وشَرِبوا، فلمَّا أن شَبِعوا ورَوُوا، قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – لأبي بكر وعمر: ((والذي نفسي بيده، لتُسْأَلُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرَجكم من بيوتكم الجوع، ثم لَم تَرجعوا حتى أصابكم هذا النعيم))[4].

هذه كانت حياته – صلَّى الله عليه وسلَّم – يَشبع يومًا، ويَجوع أيامًا، وقد تخرَّج الصحابة في مدرسته – صلَّى الله عليه وسلَّم – وعلى مِنهاجه وتحت لوائه، فهم حَسنةٌ من حسناته – صلَّى الله عليه وسلَّم – فهذا العَبقري الألْمَعي عمر بن الخطاب وقد انْفَتَحت له زهرة الدنيا، يقول: "لو شِئْتُ كنتُ أطيبَكم طعامًا، وأَلْيَنكم لباسًا، ولكني سَمِعت الله – جلَّ ثناؤه – عيَّر قومًا بأمْرٍ فَعَلوه، فقال: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ [الأحقاف: 20]"[5].

ولَمَّا قَدِم الشام، صُنِع له طعامٌ، لَم يُرَ قبله مثلُه، فقال: هذا لنا، فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يَشبعون من خُبز الشعير؟! فقال خالد: لهم الجنة، فأَزْرَفَت عيناه، وقال: لئن كان حظُّنا من هذا الطعام، وذَهبوا بالجنة، فقد بانوا بَوْنًا بعيدًا"[6].

وقال جابر بن عبدالله: "رأى عمر بن الخطاب في يدي لحمًا مُعلقًا، قال: ما هذا يا جابر؟ قلتُ: اشْتَهيتُ لحمًا، فاشْتَرَيته، فقال عمر: كلَّما اشْتَهَيتَ اشْتَرَيت، أمَا تخاف هذه الآية: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ﴾ [الأحقاف: 20]"[7].

وكان حفص بن أبي العاص يُحضر طعامَ عمرَ، فكان لا يأكل، فقال له عمر: ما يَمنعك من طعامنا؟ قال: إنَّ طعامك جشبٌ غليظٌ، وإني راجع إلى طعام ليِّنٍ، قد صُنِع لي، فأُصيب منه، قال: أتراني أعجِز أن آمُر بشاةٍ، فيُلقى عنها شعرُها، وآمُر بدقيقٍ، فيُنْخل في خِرقة، ثم آمُر به، فيُخبز خُبزًا رقاقًا، وآمُر بصاعٍ من زَبيبٍ، فيُقذف في سُعْن، ثم يُصَبُّ عليه الماء، فيُصبح كأنه دمُ غزالٍ، فقال حفص: إني لأراك عالِمًا بطيب العيش، فقال: أجَل، والذي نفسي بيده، لولا أن تنتقض حسناتي، لشارَكْتُكم في لينِ عيشكم"[8].

وقالت حفصة بنت عمر لأبيها: يا أمير المؤمنين: إنه قد أوْسَع الله الرزق، وفتَح عليك الأرض، وأكثَر من الخير، فلو طَعِمتَ طعامًا ألْيَنَ من طعامك، ولَبِسْتَ لباسًا أَلْيَنَ من لباسك، فقال: سأُخَاصمك إلى نفسك، أمَا تَذكرين ما كان رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – يَلقى من شدَّة العيش؟ قال: فما زال يُذَكِّرها حتى أبكاها[9].

ولقد كان سلفُنا الصالح أبعدَ الناس عن هذا التَّرف وحياة المترفين، فقد وطَّنوا أنفسَهم على عدم تحقيق كلِّ ما تَشتهيه، مع قُدرتهم على تحقيق مطلوبها، فقد قال رجلٌ لابن عمر: "ألاَ أَجِيئُك بجوارشَ، قال: وأيُّ شيءٍ هو؟! قال: شيءٌ يَهضم الطعام إذا أَكَلتَه، قال: ما شَبِعْتُ منذ أربعة أشهر، وليس ذاك أني لا أقْدِر عليه، ولكن أدْرَكتُ أقوامًا يَجوعون أكثر مما يَشبعون"[10]، وسُئِل الحسن عن الرجل يَبتاع الطعام ويَبتاع اللحم، هل عليه في ذلك؟ فقال: "إنَّ عمر بن الخطاب قال: كفى سرَفًا ألاَّ تَشتهي شيئًا إلا أكَلْتَه"[11].

وكان من هَدْيهم – رضي الله عنهم – أجمعين النظر إلى مَلَذَّات الحياة الدنيا وشهواتها على أساس أنها وسيلة زائلة، تُقرِّب إلى الدار الآخرة، لا أنها غاية في ذاتها، وهدفٌ يُطمَح إلى تحقيقه والتشبُّث به، فقد قال عثمان بن عفان في آخر خُطبةٍ له: "إنَّ الله إنما أعطاكم الدنيا؛ لتَطلبوا بها الآخرة، ولَم يُعطكموها؛ لتَرْكنوا إليها، إنَّ الدنيا تَفنى والآخرة تبقى، لا تَبطركم الفانية، ولا تَشغلكم عن الباقية، آثِروا ما يبقى على ما يَفنى، فإن الدنيا مُنقطعة، وإنَّ المصير إلى الله – عز وجل"[12].

وكان من هَدْيهم – رضي الله عنهم – أجمعين التوسُّط في الإنفاق على النفس والأهل؛ قال عبدالملك بن مروان لعمر بن عبدالعزيز: كيف وما يُغنيك؟ قال: الحسنة بين السيِّئتين؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67][13]، وقال الحسن: "إنَّ من علامة المؤمن ألاَّ يَقصُر به بيته، ولا يَبخل ولا يُبَذِّر، ولا يُسرف ولا يَقتر"[14]، وقال سليمان الداراني: "لا يَصبر عن شهوات الدنيا إلاَّ مَن كان في قلبه ما يَشغله من الآخرة"[15]، وقال مالك بن دينار: "بقَدْر ما تُخَزِّن للآخرة يَخرج همُّ الدنيا من قلبك"[16]، وقال طاوس: "حُلو الدنيا مُرُّ الآخرة، ومُرُّ الدنيا حُلو الآخرة"[17]، وكان الأسود يقول: "مَن كانت الدنيا أكبرَ همِّه، طال غدًا في القيامة غَمُّه"[18]، ولله دَرُّ سفيان الثوري حين قال: "إذا أَرَدْتَ أن تَعرفَ قَدْرَ الدنيا، فانْظُر عند مَن هي"[19]، وكان خالد بن صفوان يقول: "بِتُّ أُفَكِّر، فكَسَبتُ البحر الأخضر بالذهب الأحمر، ثم نَظَرتُ، فإذا الذي يَكفيني من ذلك رغيفان وطمران"[20].

ومن شُؤْم التَّرف أنَّ الأُمم والأفراد الذين يَنغمسون فيه يكفرون نِعَمَ الله – عز وجل – وتكون عاقبتُهم خُسران الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].

وقال عن قوم سبأ: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 15 – 17].

وهذا قارون المُترف حينما وجَّه له أهل الإيمان النُّصح بقولهم:﴿ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 76 – 77]، فبادَر قائلاً: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78]، فكانت النتيجة: ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ ﴾ [القصص: 81].

وفي تاريخ الأُمَّة من المُترفين مَن عاقبَهم الله – عز وجل – وأنزَلهم من البروج المُشَيَّدة إلى غَياهِب الفقر والحاجة، فهذه أُمُّ الوزير جعفر البرمكي، دخَلَت على أُناس في عيد الأضحى وعليها ثيابٌ رَثَّة، تطلب جِلد شاةٍ، فكان مما قالت: "لقد مَرَّ علي العيد فيما مضى وعلى رأسي أربعمائة جارية، وأنا أَزْعُم أنَّ ابني عاقٌّ لي، وقد أَتيتُكم يُقنعني جِلْد شاتين، أجعَل واحدًا منهما فراشًا لي، وألْتَحِف بالأخرى"[21].

وهذا المعتمد بن عبَّاد – أحد حُكَّام الأندلس، وصاحب الأُعطيات – هاجَمه البربر، ونَهَبوا قصره وأَسَروه، فذَهَبوا به إلى "طنجة" بعد أن أفْقَروه، ثم سُجِن بأغماتَ عامين وزيادة، في قِلَّة وذِلَّة، فدخَل عليه بناته يَزُرْنَه يوم عيدٍ، وكن يَغْزِلْنَ بالأُجرة، فرآهُنَّ في أطمارٍ باليةٍ، بعد أن كان يَخلط لهنَّ المِسك بالكافور؛ ليَتَزَلَّجْنَ عليه، ويَعْبَثْنَ به، فقال:
فِيمَا مَضَى كُنْتَ بِالأَعْيَادِ مَسْرُورًا
فَسَاءَكَ الْعِيدُ فِي أَغْمَاتَ مَأْسُورَا

تَرَى بَنَاتِكَ فِي الأَطْمَارِ جَائِعَةً
يَغْزِلْنَ لِلنَّاسِ مَا يَمْلِكْنَ قِطْمِيرَا

بَرَزْنَ نَحْوَكَ لِلتَّسْلِيمِ خَاشِعَةً
أَبْصَارُهُنَّ حَسِيرَاتٍ مَكَاسِيرَا

يَطَأْنَ فِي الطِّينِ وَالأَقْدَامُ حَافِيَةٌ
كَأَنَّهَا لَمْ تَطَأْ مِسْكًا وَكَافُورَا [22]

وإذا كان الإسلام يرفض التَّرف ويَعُدُّه من الصفات المذمومة، فإنَّ بعض الناس يَفهم من هذا أنْ يتخلَّى عن جميع مُتَع الدنيا ونعيمها، وأن يَبقى فقيرًا، وليس هذا هو المقصود، بل المقصود هو الاقتصاد في الإنفاق، وعدم تعلُّق القلب بهذه المَلذَّات والركون إليها، فالاستمتاع بالمُباح لا شيء فيه، بشرط ألاَّ يَشغل عن الآخرة، وفي هذه الحال يكون متاعَ بلاغٍ، وليس متاعَ غرورٍ، والتنعُّم في حدوده مقبولٌ، بل مطلوب، والتَّرف في غير مبالغة دواءٌ لمتاعب الحياة.

فمَن أخَذ الدنيا من وجوهها المُباحة، وأدَّى واجباتها، وأمسَك لنفسه الزائد على الواجب، يتوسَّع به في التمتُّع بشهوات الدنيا – فلا عقاب عليه، إلاَّ أنه يَنقص من درجته في الآخرة بقَدْر توسُّعه في الدنيا.

فالله لَم يَأْمرنا أن نتصدَّق بجميع أموالنا، بل نُنفق للآخرة، ونَستمتع بالمباح في الدنيا استمتاعًا لا يُفسِد الدين، ولا يضرُّ بالآخرة، فإن شَغَلتك الدنيا عن الله، فالزهد فيها تَرْكُها، وإن لَم تَشغل عن الله، بل كنتَ شاكرًا فيها، فأنت في حال طيِّبٍ.

وقد سُئِل الإمام أحمد: أيكون الإنسان ذا مالٍ وهو زاهد؟ قال: نعم، إن كان لا يَفرح بزيادته، ولا يَحزن بنُقصانه، فأخرِجوا الدنيا من قلوبكم، وضَعوها في أيديكم.

فالزهد ليس ألاَّ يكونَ عند الإنسان شيءٌ، لكنَّ الزهد ألاَّ يتعلَّق قلبه بهذا الشيء الذي هو عنده، وقد كان – صلَّى الله عليه وسلَّم – أزْهَدَ الناس وعنده تسع نِسوة، وكان علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوَّام – من الزُّهاد ومن المعدودين من كِبار التجار، وكان الحسن بن علي من الزُّهاد، مع أنه كان من أكثر الأُمَّة محبَّة للنساء، ونكاحًا لهنَّ، وكان عبدالله بن المبارك من الزاهدين بالرغم من المال الكثير الذي كان عنده.

فالزهد الحقيقي أن تكون بما في يد الله أوثقَ مما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصِبْتَ أرْغَبَ منك فيها لو أنها بَقِيتْ لك؛ قال الله – تعالى -: ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ﴾ [الحديد: 23].

وإذا كان حديثُنا في المقام الأوَّل لأفراد المسلمين، فإنه يكون أيضًا للدول والحكومات، بأن تحافظَ على شَعبها، وأن تعملَ على سدِّ الذرائع التي تؤول بالبلاد والعباد إلى الترف المذموم، الذي يجرُّ إلى الذنوب والمعاصي، ويُورث دمارًا وهلاكًا، وهذا يتطلَّب منَّا جميعًا العودة الصادقة إلى كتاب الله وإلى سُنة رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – عِلمًا وعملاً واعتقادًا، وأن نبذلَ وُسعنا في معاني التقدُّم والتحضُّر والتطور وَفْق منهج العبوديَّة؛ بحيث نُقيم حضارة على منهاج النبوَّة، فالنعمة لا تُطغينا، والمُصيبة لا تَجعلنا نَيْئَس ونَقنط من رحمة الله، وأن نُواجه النِّعم والغِنى بالشكر، والفقرَ بالصبر.

أسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يَقِيَنا شرَّ أنفسنا؛ إنه نِعم المولَى، ونعم النصير.

[1] رواه البخاري (5374)، مسلم (2976)، الترمذي (2358)، ابن ماجه (3343).

[2] رواه مسلم (2977)، الترمذي (2372)، ابن ماجه (4146).

[3] رواه البخاري (2567)، مسلم (2972)، الترمذي (2471)، ابن ماجه (4144).

[4] رواه مسلم (2038)، الترمذي (2369)، ابن ماجه (3180).

[5] طبقات ابن سعد (3/ 279).

[6] سُبل الهدى والرشاد (11/ 265).

[7] الآداب الشرعيَّة (3/ 341).

[8] تاريخ دمشق (14/ 414).

[9] طبقات ابن سعد (3/ 277).

[10] الزُّهد، للإمام أحمد (189).

[11] إصلاح المال، لابن أبي الدنيا (106).

[12] ذم الدنيا، لابن أبي الدنيا (77).

[13] إصلاح المال؛ لابن أبي الدنيا (100).

[14] إصلاح المال؛ لابن أبي الدنيا (100).

[15] ذم الدنيا؛ لابن أبي الدنيا (129).

[16] ذم الدنيا؛ لابن أبي الدنيا (66).

[17] حِلية الأولياء (4/ 12).

[18] ذم الدنيا؛ لابن أبي الدنيا (132).

[19] ذم الدنيا؛ لابن أبي الدنيا (145).

[20] ذم الدنيا؛ لابن أبي الدنيا (148).

[21] سِيَر الذَّهبي (9/ 69).

[22] سِيَر الذهبي (19/ 63).

نسأل الله أن ينفعكم بما طرحنا ويكتب لنا الأجر


سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.