روايه لحظة وداع

لحظة وداع

كانت ليلة باردة لايعكرصفوها سوى رائحة المطهر الذي يميِّز المستشفيات..
مستلقية على السرير الأبيض..
في غرفة هادئة مملؤة بالأجهزة..
لم أحس بأي ألم في تلك الليلة كنت أقلب أفكاري..
خائفة من الغد..
ابتسمت وأنا أتذكر زوجي خالد يقول:
لاتخافي ياهناء الطب تقدم والأجهزة تطورت وسأظل بجانبك مدى الحياة..
تذكرت نظراته المليئة بالحب والحنان..
أمي كم أحبك..
صدى صوتك المحشرج بالبكاء وأنت تدعين الله يرنُّ في أذني..
صورتك دائماً في مخيِّلتي..
عيناك. السوداوان غارت من كثرة البكاء..
أشياء كثيرة تغيرت..
زائريَّ كلهم تغيروا..
شيء غريب حتى الأحاديث التي تطرح في غرفتي كلها عن الصبر وقوَّة الإيمان…
ماذا حدث ياترى؟؟؟
الأوهام تطاردني.
حاولت القضاء عليها فاستعذت بالله..
قطعت أمي حبل أفكاري وهي تناديني إلى الصلاة..
شيء غريب من بداية مرضي وهي حريصة على صلاتي توقظني بصوت حزينٍ مستسلم..
تنهدت وقالت:
أسأل الله أن يعافيك..
أخبرتها أنني اليوم بصحة جيدة..
خرجت أمي وأنا أكلمها وتركتني..!
سكت وقمت أصلي الفجر وفي الركعة الأخيرة طرق باب غرفتي؟؟
من الطارق ياترى؟؟
إنه أخي محمد..يسأل عن صحتي..طمأنته وقلت له:
سوف أخرج اليوم من المستشفى..
انتظرت منه ابتسامة لكنه فتح شباك غرفتي وتنفَّس بعمق وهو يذكر الله..
ثم قال بدون أن يرفع عينيه من الأرض:
أودُّ تغيير اتجاه سريرك ياهناء..
وقبل أن أصرِّح له بالموافقة..
حرَّك السرير باتجاه القبلة!!!
ووضع المصحف بجانبي وخرج!
وهمَّت أمِّي بالخروج معه..
تذَّكرت حينها المناقشات الحادة التي تدور بيننا في أمور الدين فيتقبلها برحابة صدر..
استرخيت على سريري فهذا المكان أفضل من ذي قبل أستطيع أن أنظر إلى الحديقة وأسمع أهازيج الطيور..
فهو يذكرني بشباك ابنتي سارة..
أين أنت ياسارة..
سوف أعوضك عن الأيام التي قضيتها بعيدة عنك في المستشفى..
دخلت أمي عليَّ ذكرتها بسارة..
طمأنتني عليها فهي مع أختي وفاء..
الساعة العاشرة الآن..
الدكتور قادم..
سوف أخبره عن رغبتي في الخروج فزواج أخي ماجد قريب..
أخذت المجلَّة وفتحت على صفحة الموديل الذي اخترته…
فتخيَّلت فستاني الوردي..
سوف أصبح ملكة جمال الحاضرات…
أخذني النعاس قليلاً..
ثم استيقظت فوجدت أخي محمد أمامي وزوجي خالد ممسكاً بيدي..
أخبرته برغبتي في الخروج ثم سأل الله أن يعافيني وابتعد حتى لا أرى عينيه الغارقتين بالدموع..
في هذه اللحظة دق الباب ودخلت الممرضة لتعلن وصول الطبيب..
تجهزت للقائه وأذنت له بالدخول..
فقام بإجراء الفحوصات اللَّازمة..وأخبرته أنني اليوم أفضل يوم من بداية مرضي وأريد الخروج اشتقت لبيتي..
قال الطبيب:
سوف آذن لك بالخروج ولكنك فتاة مؤمنة بربك وموقنة بأن الموت حق..
وسكت……
تسارعت أنفاسي وأنا أقول له:
أكمل يادكتور……
قال:
حالتك ميؤوس منها ياهناء وسوف أصرِّح لك بالخروج لتقضين آخر أيام حياتك…
صدمت ولأول مرة في حياتي..
رفعت صوتي قلت:
يادكتور كيف يعجز الطب عن حالتي..
قال:
الحياة بيد الله والطب وسيلة وحالتك لانستطيع السيطرة عليها..
وسكت..
أحسست حينها أنني مجوفة من الداخل..
والدنيا اعتراها السواد..
وبدأت تتضح لي الصور..
أول صورة كانت صورة ابنتي سارة وعمرها ستة أشهر..
ثم صورة زوجي خالد..
وأمي..
وآخر صورة هي فستان زواج أخي ماجد..
شعرت باختناق وضيق في صدري..
لاأستطيع أن أكلم أحداً..
خاصة زوجي خالد لأنه يذكرني بأيام الرخاء وأنا في وقت الشدة..
أكملت اجراءات خروجي من المستشفى وذهبت إلى بيت أهلي..
فكانت رغباتي أوامر لايستطيعون رفضها في ذلك الوقت..
دخلت المنزل وصعدت إلى غرفتي ورميت بنفسي على الأريكة..
كنت متشوقة لرؤية ابنتي سارة..
لكن لاأستطيع أن أراها الآن..
لاأريدأن تشعر بأنها معتمدة عليَّ في كلِّ شيء..
سأوكل أمرها إلى الله..
دخلت أمي وهمست بصوت خافت وقالت:
مادا تريدين أن تأكلي؟؟
قلت لها:
لاشيء..
احترمت رغبتي وسكتت..
وكأنها تقول"لاداعي ان تأكلي مادام مصيرك الى الدود..
ثم قالت:
هناء زوجك يريد ان يقابلك..
قلت لها بصوت عالٍ:
لاأريد ان أراه..
خرجت أمي ورجعت ثانية قالت:
أن خالد جالس مع أخيك محمد إذا أردت أن تريه فهو هناك في المجلس ينتظرك..
لكنني قررت أن لا أعذب أحداً خاصة وأنا في آخر أيامي..
فوقتي قصير..
فكم من الوقت أهدرته في أمور تافهة..
مثل مجلة الأزياء التي اخترت منها موديل زواج أخي ماجد..
والآن تركتها في المستشفى ولن ألبس الفستان..
ياالله أشياء كثيرة أريد إنجازها وأحتاج بعض الوقت..
مثلي مثل الطالب الذي أعلن المدرس بأن الوقت قارب على الانتهاء والطالب لم يكتب شيئاً يذكر..
جلست أفكر وأخرجت ورقة وقلم وكتبت وصية..

وصية؟؟
كم تندمت على ذلك الوقت الذي ينزل فيه رب العزة والجلال إلى السماء الدنيا فيقول:
هل من داعٍ فأجيبه..
ياليتني قمت وصليت ودعوت الله أن يحفظ سارة وأباها..
فجأة رميت الورقة والقلم وقمت وفتحت خزانة ملابسي،وأخرجت فستاني الحرير الذي كان يحب أن يراه خالد..
ولبسته وسرحت شعري وقفت أمام المرآة وتأملت نفسي..
ياالله كم تبقى من الوقت ويدفن هذا الجمال في التراب…
وكم تبقى من الوقت وتمشي الحشرات على هذا الخد الناظر…
كنت أعتني بجسمي..حمامات زيت وكريمات لمكافحة التجاعيد..
ليتني وصلت إلى سن التجاعيد..
خسارة الوقت الذي أمضيته وأنا أوزع شرائح الخيار على وجهي..ليتني قرأت سورة من القرآن أو لاعبت ابنتي سارة قبل أن تفتقدني..
وقفت وتأملت جسمي…
سوف يتمدد في القبر بعد ساعات ..
ياترى ضلوعي هل تلتقي بضمة القبر..
ورقبتي التي التي طالما رفعت بها رأسي هل تنحني على صدري أم تفل إلى أرجلي….؟!
تذكرت شدة حماسي لأنضم إلى النادي وكيف احتلت على زوجي..
فاستخدمت جميع الوسائل حتى أحصل على موافقته..
أشياء عديدة خطرت على بالي..
مضى الوقت بسرعة وأنا بين أدويتي المهدئة وبين صلواتي وقراءاتي..
وعندما حل الظلام خرجت من غرفتي فوجدت أمي حبيبتي فهي البلسم لجروحي قلت لها:
أمي أريد رضاك..
فانفجرت باكية..
وقالت في صوت متقطع:
أنا راضية عنك فإنك لم تغضبيني ولم أتعب في تربيتك..
تنهدت وأنا مرتاحة..
*وهممت بالنهوض فرأيت أختي وفاء خارجة من غرفتها فما إن رأتني حتى وضعت يدها على وجهها وكأنني شبح أمامها ودخلت لغرفتها بسرعة..
ماهذه الليلة الغريبة؟؟؟
كل شخص منعزل لوحده..
ليلة شبه ليلة السفر!
فعلاً انها ليلة سفر!!!
تذكرت كيف كان قلقي في كل ليلة سفر فلا أنام..
صحيح أن سفري كان سياحة الا أنني أتقلب في فراشي وكل دقيقة أذهب لأتفحص أغراضي..
ولكن سفري اليوم شيء آخر..
سفر لارجوع بعده..
مشيت فسمعت صوت ترتيل أخي محمد فأردت الدخول عليه وهو أعز اخواني مكانة..
جلست بجانبه وهو يقرأ فتغيرت نبرة صوته وبدأت تتذبذب وحاول أن يرفع صوته ليسيطر على ضعفه..
وأنهى السورة والتفت علي..
قلت:
محمد كيف يكون الموت؟
أجابني وعيناه غارقتان بالدموع فقال:
إن شاء الله سيكون سهل…
فقاطعته وقلت له:
وماهو البرزخ؟
قال:
هي الحياة بين الدنيا والآخرة..
سألته:
كيف يكون حالي إذا لم تدعو لي؟
فرفع يديه إلى السماء واجتهد بالدعاء وخرجت من عنده وبدون أن أشعر ساقتني رجلاي إلى المجلس أريد أن أعرف إذا كان خالد موجود هناك..
دخلت المجلس فرفع رأسه فتراجعت وناداني بصوت عالٍ:
هناء تفضلي بالدخول فأنت حبي الأول والأخير..
وبكى ثم بكيت..
فلن أتحمل رؤيته هو بالذات وأخبرته بأن الموت سيبعدني عنك..
فلا يمكن رؤيتك إلا بالجنة إن كنتُ من أهلها..
قال لي:
من ماتت وزوجها راضٍ عنها دخلت الجنة..
وأنا راضٍ عنك إن شاء الله..
قلت له:
لكنني مقصرة في حقك..
قال:
بالعكس حياتي معك كالحلم الجميل أتمنى أن لاأفيق منه أبدا..
وقام من مكانه وخرج..
بعد برهة تسلل إلى خاطري صوته وهو يحدث زوجته الأخرى..
ياخسارة كان الزوج المثالي بالنسبة لي..
وخرجت لأكمل رحلتي الكئيبة ووقفت عند غرفة سارة وأنا أحاول اخفاء عبراتي..
ترددت بالدخول لكي لا أقلب أوجاعها وترضخ للأمر الواقع..
لكن شعرت إن لم أرها سوف تتحول آخر ساعاتي إلى ثوانٍ..
ولأول مرة أتصرف بأنانية وأفتح الباب وأدخل فكانت أختي وفاء تنام بجانبها..
فانحنيت على سارة وشممتها وقبلتها..
تمددت بجانب ابنتي سارة وضممتها وبكيت..
والتفتُّ إلى وفاء وقلت لها:
كم تمنيت أن أرى سارة وهي عروس..
أريدها أن تتذكرني تترحم علي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ينقطع عمل ابن آدم إلا من ثلاث وذكر ولد صالح يدعو له"
فألقيت نظراتي على سارة..
فلا أدري كم من الوقت مضى ولأول مرة أسمع صوت أذان الفجر فلا أستطيع الحراك..
عيناي شاخصتان لأعلى..
ووجهي شحب لونه..
صورة ابنتي سارة في مخيلتي أريد أن أضمها ثانية..
أغيب عن الوعي تارة وأصحو تارة أخرى..
أسمع أصوات ضجيج وبكاء..
سالت الدموع على خدي..
أصبحت كالدمية يقلبونها كيف يشاؤون يمينا ويسارا..
تذكرت قوله تعالى: (كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذٍ المساق)
ثم بكيت..
أريد المساعدة لكن الوقت قد فات..


سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.