الترجمة رئة الأمة في تنفس عبير الحضارة، وقناة التبادل الثقافي والتلاقح الانساني بين الأمم والشعوب، واللغة التي ابتكرتها الانسانية قبل أن تتطور اللغات وتنمو الأفكار والفلسفات. ومراجعة بسيطة لتأريخ العالم يكشف أثر الترجمة في تحقيق النقلات الحضارية وربط الحلقات المعرفية من جهود المفكرين والعلماء والفلاسفة من مختلف البلدان، في سلسلة لا تنتهي بما نتوفر عليه اليوم من زوادة فكرية وروحية. بدء من ترجمة العرب المتقدمين للفكر اليوناني أو ترجمة الأوربيين لمؤلفات العرب الاندلسيين ليكملوا بها ما انقطع من تأريخهم، ويواصلوا مسيرة البحث والتطور وصولاً الى تقنية الفضاء والالكترون.
وإذا جاز لنا أن نعتبر ما حققه العرب في النصف الأول من القرن العشرين نهضة أو بوادر نهضة، فانما هي مدينة للترجمة عن لغات مستعمرينا من الأتراك والانجليز والفرنسيين ثم الروس وذلك من خلال قنوات فردية أو مؤسساتية، نذكرمنها دور النشر اللبنانية والمصرية ودار التقدم في موسكو. الأولى في النشر التجاري الذي انعكس على سطح الحياة الثقافية العربية؛ والثانية في النشر الأيديولوجي الذي انعكس على الخطاب السياسي العربي أحزاباً وأنظمة. نشاط الأولى انحسر مع نشأة البلدانية العربية وقيام الحدود والقمارق التي تعامل المطبوع معاملة السلاح والحشيشة، ثم جاءت الحرب اللبنانية لتجهز على البقية الباقية وتصبح أمجاد مطابع لبنان أثراً بعد عين!. ثم جاء انهيار الاتحاد السوفيتي ووفاة غائب طعمة فرمان وتشتت الأدباء العرب(الشيوعيين) العاملين في دار التقدم الى بلاد الله المعولمة ليقضي على الثانية وتصبح مجرد ذكرى وعبرة (لأولي الألباب).
وثمة.. فالترجمة المعول عليها اليوم، هي الجهود الفردية التي تتفاوت في مستوياتها وأغراضها، من جهة؛ ومن الجهة الثانية، ما يستطيع منها اجتياز الأسلاك الشائكة لدور النشر والمؤسسات الرسمية والخاصة، التي تتقبل هذا المنتوج وتتولى نشره وتسويقه. ونظرة عامة الى واقع المكتبات، تؤشر تراجع سوق الترجمة في العقود الأخيرة كماً ونوعاً، وبغض النظر عن الأسباب، فقد كان لهذا التراجع أثره المباشر على الخطاب الثقافي العربي ومنتجاته وبالشكل الذي أفسح المجال لظهور تيارات مختلفة متفاوتة في أساليبها وأغراضها، بل أن بعض هاته راحت تجهز على البقية الباقية من فضاءات الحرية الفكرية والانفتاح الثقافي تمهيداً للدخول في فترة مظلمة جديدة وقبل أن يشفى العرب تماماً من أعراض الفترة المظلمة الأولى. والغريب أن تلتقي مصالح وأهداف عولمية وداخلية في هذا الاتجاه، زادت من حصار المثقف العربي وامتهانه، لترتفع ثانية وثالثة صرخة أحمد بن الحسين المتنبي:
ما مقامي بأرض نخلة إلاً كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله (م) غريب كصالح في ثمود
وغنيّ عن القول ما آل إليه اليهود بعد المسيح أو ثمود!..
في هذا الإطار لم تكن الترجمة قناة إتصالية، بله نافذة لتنسم عبيرالحرية الفكرية، وفرصة لاستنشاق هواء آخر، وحجراً في بركة؛ وكم من كاتب لم تواته الظروف للتعبير عن آراء لاتتفق والسقف الفكري المحدد، وجد في الترجمة قناة العبور والاجتياز..!
* * *
بيد ان عدم تبلور مشخّصات خطاب ثقافي عربي- مُجْمَع عليه- في العالم العربي، انعكس سلباً على المواجهات الحساسة والمنتجات المعرفية في حياتنا، وتحمّلت الترجمة تبعاً لذلك الكثير مما يحسب عليها اليوم. فالمثقف العربي عموماً والمترجم – هنا – بخاصة، يعتمد إجتهاداته الفردية في التعامل مع النص أو الفكرة، هذا الاجتهاد (الشخصي) لا يعني بواقع الحال – الحرية- إن لم يكن العكس تماماً، فهو يفتقر أية حصانات معرفية أو مؤسساتية لمواجهة المكانزمات التقليدية التي ما زالت فاعلة في المجتمع العربي. الأمر الذي ترتب عليه المراوغة أو المجاملة أو التعامل بأنصاف الحقائق وأنصاف الأساطير. من جهة أخرى استساغ البعض أو استسوغ حالة التبعية (للآخر) في نقل الفكرة، وهو في ذلك يمارس حالة (تغييب الذات) أمام النص، سواء من مبدأ أمانة النقل أو شيء آخر، ويندفع أحياناً، لإضفاء مسحة من الإطراء والمبالغة مستفيداً من فنون البلاغة والمجاملة العربية، فيتمكن من عاطفة القارئ وفكره. فشاعت ظاهرة التقليد والتبعية في النصف الأول من القرن الماضي. ولم يتورع أدباء ومثقفون كبار ما زال يشار إليهم كأعمدة للنهضة العربية يومذاك- عن أن يكونوا مرددين أو تابعين لأساتذتهم الأجانب أو مرجعياتهم الغربية. ذلك ان تعاملهم استند الى الانبهار بـ – المدنية الغربية- إنبهاراً عاطفياً، يسود الزائر القادم من بلاد وثقافة أخرى، لأول وهلة ، وليس إنبهاراً فكرياً مستنداً الى الدراسة والتمعن والمناقشة والتحليل. ويدخل في باب الإنبهار العاطفي – هنا- لدى المتعاملين مع الغرب- الخروج من تراكمات الكبت النفسي وسطوة المجتمع الأبوي المحافظ الى أجواء الحرية – الجنسية- . الأمر الذي يتغافل معظمهم من التطرق إليه من قريب أو بعيد. بل أن كثيراً منهم بدأ أو إنتهى في أحضان زوجة أجنبية، فكان نظره الى الغرب من زاويتي عينيها قبل محاججته الفكرية. ولعلّ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين- هو أفضل مثال لذلك. ويمكن تشخيص الحالة تبعاً إليه:
1- أسرة ريفية بسيطة متدينة.
2- نشأة أزهرية صارمة استغرقت كل سنوات دراسته وتعليمه حتى الحصول على – العالمية-!.
3- الانتقال الى باريس في بعثة دراسية؛ ومن الأفضل تشريح هذا الانتقال على عدة صعد:
أـ- التحول البيئي من بيئة شرقية – متخلفة- الى باريس التي كانت يومذاك قبلة العالم في كل شيء.
ب ـ التحول الفكري من تربية أزهرية متزمتة الى أجواء حرية فكرية.
ج ـ التحول النفسي والعاطفي من بيئة إجتماعية محافظة الى مجتمع مفتوح تزاحم فيه النساء الرجال.
د ـ علاقته في المجتمع الجديد ودراسته كانت من خلال فتاة فرنسية بدأت مساعدة له في الدراسة وانتهت حبيبة وزوجة.
4- تتمثل في حالته خاصتان انماز بهما عن غيره؛ فقدانه لبصره ودراسته الدينية في الأزهر.
وكان من أثر كل ذلك بروز ملامح جديدة لاتنسجم مع ثقافته الأزهرية الأولى أو ثقافة بلدة العامة. وشخصية طه حسين وطريقة تعامله وتأثره بالغرب تختلف عن الشاعر أحمد شوقي الذي نقل المسرحية الشعرية الى الأدب العربي دون أن يتنازل عن إنتمائه لتراثه، ونحن نذكر معارضاته الرائعة لعيون الشعر العربي. ويمكن تبرير ذلك بالفوارق المتعددة في السيرة الحياتية وفقاً للنقاط الآنفة. وتصحّ هذه الصورة – في قليل أو كثير- على معظم الذين أتموا تحصيلهم العلمي في أوربا، دون أن يستطيعوا نقل الصورة الصحيحة الوطنية أو الأجنبية الواحد للآخر. ولعلّ المجتمع الجامعي والانشغال بالدراسة، أتاح لهم الاختلاط بجزء من المجتمع الغربي، ما يمكن اعتباره وسط المثقفين. وعدم تنوع خبراتهم المعيشية مع الطبقات الأخرى للتعرف على مستوياتها المعيشية وطرائق تفكيرها. كما أن نظرة المجتمع اليهم كطلبة جامعة أو دراسات عليا أو مجرد سياح أثرياء، غيرها الى العربي المهاجر الباحث عن فرصة العمل أو الاقامة غير المؤقتة. وما تزال مكتبتنا الثقافية تفتقر الىالدراسات التحليلة الانتقادية التي تتصدى لدراسة الأفكار والشخصيات خارج إطار المجاملة أو الهجوم المقصود. وهي حاجة فكرية وحضارية سوف تسعفنا كثيراً وتلخص لنا طريق الوصول الى الخطاب الثقافي المعاصر أو الهوية الثقافية المستقلة.
الترجمة.. لدى معظم المشتغلين بها تعني نقل الآخر. أي النقل عن اللغات الأجنبية. أما تحديد المختارات وترشيحها للنقل فقد اعتمد الاستسهال.. أي أنه لم يتصدّ للبحث ونادراً ما يستند ذلك الى دراسة ممحصة لتأريخ وثقافة البلد، وبالتالي معرفة دقيقة في تحديد – ماذا ولماذا – ينبغي نقل هذا الكتاب للعربية. المسألة متروكة إجمالاً للشهرة، شهرة الكاتب في لغته الأصلية؛ ومن هنا يمكن تصنيف المتَرجَمين أو المنقولين للعربية بأحد صنفين: مشاهير الكتاب عند شعوبهم ومعظمهم في هذه الحال ينتمون الى عهود غابرة، أمثال شكسبير وغوته وشيللر وهولدرلن وبلزاك وهوغو ودستوفسكي وتولستوي؛ أو المعاصرين الذين حظوا بشهرة لافتة من خلال حصولهم على جوائز أو تصدرهم قوائم المبيعات، والترجمة في هذه الحال تنسجم مع سياسة السوق. فالمترجم لا يجازف بترجمة كاتب معاصر غير مسنود الشهرة، وفي هذه السبيل وقعت ترجمة الحاصلين على جائزة نوبل بينما لم يفطن لهم أحد من قبل. كأن يتصدى إثنان لترجمة (طبل صفيح) غونتر غراس فورحصوله على جائزة نوبل!. ولعلّ الضرورة تستدعي شروطاً أفضل وأكثر علمية من مجرد الشهرة السوقية أو اكتساب جائزة مشروطة بعوامل معينة (سياسية غالباً) ولا علاقة لها بالقيم الأدبية والفنية.
هذا يخدم مسألة أخرى ، هي إثارة إنبهار القارئ .. وهي هنا نقل الإنبهار من الصعيد الشخصي – للمترجم- الى (المجموع). وكان من أثر ذلك نشوء حالة إعجاب مسبقة لدى العربي بكل ما هو أجنبي، لأن ما ترجم إليه له مقومات تم اختبارها في اللغة الأم. لم يتصدَّ أحد لترجمة أديب معاصر له، أو كاتب أو شاعر شاب، لم يحظَ بشهرة مناسبة – قام أدباء المهجر الجدد في السنوات الأخيرة بترجمة زملاء لهم من أهل البلاد-. أما الموضوع الآخر والأكثر أهمية في هذا الجانب. فهو عدم تصدي المترجمين العرب خلال القرن الماضي بتقديم الأدب العربي للآخر. وبذلك لم يطلع الأوربيون على ثقافتنا المعاصرة ومنتجاتنا المعرفية الراهنة، مكتفين بما ترجمه المستشرقون من عينات التراث العربي وبما يلبي الذائقة الأوربية. أي أنه لم تجرِ ترجمة أمينة أو علمية كما يقال لأعمال كاملة وإنما تأكيد ما يدعم وجهة النظر الغربية عن العرب. تلك النظرة المحددة في [نفط/ تعدد النساء (الحريم)/ اسلام]، نظرة تعتمد سوء الفهم وليس الموضوعية أو العلمية. وفي حين لا يعرف الأوربي شيئاً ذا بال عن تراث العرب وثقافتهم المعاصرة فان الواقع العربي كما يُتناقَل إليه عبر وسائل الاعلام وعلى خلفية الصراع العربي الاسرائيلي؛ في ضوء التأييد الأوربي المطلق لكل ما يتعلق ياليهود على خلفية التركة النازية. وهكذا.. وقع العرب أمة ومجتمعات، وأفراداً مقيمين في المهاجر الاوربية، ضحايا مزدوجة لسلسلة طويلة ومتشابكة من العوامل. ومن الطريف.. أن لا يثيرهذا الوضع إهتمام جهة ما عربية رسمية أو غير رسمية، ويبقى في حدود معاناة أفراد وجهات لا تلقى أي دعم في وجه السياسة الغربية المضادة.
ان طامتنا الكبرى متعددة الألوان والمستويات، وكل منها أفظع من الذي يليه. الصدق مع الذات والمشاعر الوطنية المخلصة أصبحت صوراً للعار عند البعض؛ عندما ينضمّ.. الى جانب مرتزقة السياسة وجواسيس المخابرات الغربية، نفر يبيعون أصواتهم للدعاية المضادّة ويؤلفون كتباً ومقالات تبوِّق للدعاية الأمريكية والصهيونية، ثم يشكو أحدهم وعينه تدمع على شاشة التلفاز الألماني، أنه تلقى تهديداً من قومه! لاحظ.. تهديداً من قومه.. على شاشة التلفاز الألماني الفضائية، لوضعه كتاباً يشوه صورة الاسلام!!..
هل الابتذال هو طريق الشهرة والمال. هل عليك أن تبيع نفسك للشيطان حتى تصبح من أهل الجاه والسلطان. ثمة نفر ممن يكتبون بلغة أجنبية. ولكنهم يتنكرون للمسؤولية الأخلاقية ويندفعون لدغدغة الغرائز الغربية، وإثارة الضدّية، بسرد حكايات التهتك الجنسي أيام الطفولة، وأمامنا مثالان، أحدهما من المغرب والآخر من العراق، واحد يكتب باللغة الفرنسية والآخر بالانجليزية. والكتابان موضع شهرة وتندر. كاتبة أخرى لم تجد غير استثمار الصورة الغربية المرسومة للمرأة المسلمة المفتقدة لأبسط الحقوق، وكان الثمن جائزة دور النشر الألمانية. قد يدعي البعض أنه نقل حالة واقعية جرت له مثلاً، ولكن هل يجوز له تعميم ذلك؟ في حالة التبادل هناك نزعة للتعميم، فالأجنبي عندما يخطئ، يتم وصم كل الاجانب بذلك. والكاتب الأجنبي الجيد المترجم للعربية يترك انطباعاً عن التفوق والامتياز الغربي.
لماذا لا يهتم الغرب إلا بالظواهر التي تسيء الى صور العرب والاسلام. بينما لا يجرؤ كائن من كان أن يشكّ في ما يتعلق باليهود، حتى لو كان أرقام ضحايا الهولوكوست، حتى لو كان ذلك الشخص هو أوربي وفرنسي وفيلسوف مثل جارودي. هذا ليس خروجاً عن الموضوع. وانما دخولاً في النصّ. لقد تعود البعض تجزئة الاشياء وفصل المتعلقات حتى يضيع الأمر. وهي طريقة غير ذكية في الهروب من المواجهة وانما نفعت الكثير، ولكنها أضرت بالأمة ضرراً لا يغفر لأحد دوره فيه، ولا يتوقع قدرة القرن الجديد على التصحيح؛ لأن الأوضاع تسير نحو الأسوأ، أصوات التصفيق العربي أصبحت أعلى وأعلى منها قبل عشر سنوات.
ان المسؤولية الأخلاقية تتطلب من الجيل الجديد من المترجمين، أن يبادروا الى تقديم ثقافة بلدانهم وأدب زملائهم للقارئ الغربي وبلغته، ليطلع.. ليس على منتوجنا الثقافي والمعرفي، وانما على صور معاناة ومطامح وحياة الشخصية العربية. ليعرفوا ان العربي لا يحتفظ في داره بمربط حريم، وان العرب لا يشربون النفط بدل الحليب في فطورهم!!.
وإذا جاز لنا أن نعتبر ما حققه العرب في النصف الأول من القرن العشرين نهضة أو بوادر نهضة، فانما هي مدينة للترجمة عن لغات مستعمرينا من الأتراك والانجليز والفرنسيين ثم الروس وذلك من خلال قنوات فردية أو مؤسساتية، نذكرمنها دور النشر اللبنانية والمصرية ودار التقدم في موسكو. الأولى في النشر التجاري الذي انعكس على سطح الحياة الثقافية العربية؛ والثانية في النشر الأيديولوجي الذي انعكس على الخطاب السياسي العربي أحزاباً وأنظمة. نشاط الأولى انحسر مع نشأة البلدانية العربية وقيام الحدود والقمارق التي تعامل المطبوع معاملة السلاح والحشيشة، ثم جاءت الحرب اللبنانية لتجهز على البقية الباقية وتصبح أمجاد مطابع لبنان أثراً بعد عين!. ثم جاء انهيار الاتحاد السوفيتي ووفاة غائب طعمة فرمان وتشتت الأدباء العرب(الشيوعيين) العاملين في دار التقدم الى بلاد الله المعولمة ليقضي على الثانية وتصبح مجرد ذكرى وعبرة (لأولي الألباب).
وثمة.. فالترجمة المعول عليها اليوم، هي الجهود الفردية التي تتفاوت في مستوياتها وأغراضها، من جهة؛ ومن الجهة الثانية، ما يستطيع منها اجتياز الأسلاك الشائكة لدور النشر والمؤسسات الرسمية والخاصة، التي تتقبل هذا المنتوج وتتولى نشره وتسويقه. ونظرة عامة الى واقع المكتبات، تؤشر تراجع سوق الترجمة في العقود الأخيرة كماً ونوعاً، وبغض النظر عن الأسباب، فقد كان لهذا التراجع أثره المباشر على الخطاب الثقافي العربي ومنتجاته وبالشكل الذي أفسح المجال لظهور تيارات مختلفة متفاوتة في أساليبها وأغراضها، بل أن بعض هاته راحت تجهز على البقية الباقية من فضاءات الحرية الفكرية والانفتاح الثقافي تمهيداً للدخول في فترة مظلمة جديدة وقبل أن يشفى العرب تماماً من أعراض الفترة المظلمة الأولى. والغريب أن تلتقي مصالح وأهداف عولمية وداخلية في هذا الاتجاه، زادت من حصار المثقف العربي وامتهانه، لترتفع ثانية وثالثة صرخة أحمد بن الحسين المتنبي:
ما مقامي بأرض نخلة إلاً كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله (م) غريب كصالح في ثمود
وغنيّ عن القول ما آل إليه اليهود بعد المسيح أو ثمود!..
في هذا الإطار لم تكن الترجمة قناة إتصالية، بله نافذة لتنسم عبيرالحرية الفكرية، وفرصة لاستنشاق هواء آخر، وحجراً في بركة؛ وكم من كاتب لم تواته الظروف للتعبير عن آراء لاتتفق والسقف الفكري المحدد، وجد في الترجمة قناة العبور والاجتياز..!
* * *
بيد ان عدم تبلور مشخّصات خطاب ثقافي عربي- مُجْمَع عليه- في العالم العربي، انعكس سلباً على المواجهات الحساسة والمنتجات المعرفية في حياتنا، وتحمّلت الترجمة تبعاً لذلك الكثير مما يحسب عليها اليوم. فالمثقف العربي عموماً والمترجم – هنا – بخاصة، يعتمد إجتهاداته الفردية في التعامل مع النص أو الفكرة، هذا الاجتهاد (الشخصي) لا يعني بواقع الحال – الحرية- إن لم يكن العكس تماماً، فهو يفتقر أية حصانات معرفية أو مؤسساتية لمواجهة المكانزمات التقليدية التي ما زالت فاعلة في المجتمع العربي. الأمر الذي ترتب عليه المراوغة أو المجاملة أو التعامل بأنصاف الحقائق وأنصاف الأساطير. من جهة أخرى استساغ البعض أو استسوغ حالة التبعية (للآخر) في نقل الفكرة، وهو في ذلك يمارس حالة (تغييب الذات) أمام النص، سواء من مبدأ أمانة النقل أو شيء آخر، ويندفع أحياناً، لإضفاء مسحة من الإطراء والمبالغة مستفيداً من فنون البلاغة والمجاملة العربية، فيتمكن من عاطفة القارئ وفكره. فشاعت ظاهرة التقليد والتبعية في النصف الأول من القرن الماضي. ولم يتورع أدباء ومثقفون كبار ما زال يشار إليهم كأعمدة للنهضة العربية يومذاك- عن أن يكونوا مرددين أو تابعين لأساتذتهم الأجانب أو مرجعياتهم الغربية. ذلك ان تعاملهم استند الى الانبهار بـ – المدنية الغربية- إنبهاراً عاطفياً، يسود الزائر القادم من بلاد وثقافة أخرى، لأول وهلة ، وليس إنبهاراً فكرياً مستنداً الى الدراسة والتمعن والمناقشة والتحليل. ويدخل في باب الإنبهار العاطفي – هنا- لدى المتعاملين مع الغرب- الخروج من تراكمات الكبت النفسي وسطوة المجتمع الأبوي المحافظ الى أجواء الحرية – الجنسية- . الأمر الذي يتغافل معظمهم من التطرق إليه من قريب أو بعيد. بل أن كثيراً منهم بدأ أو إنتهى في أحضان زوجة أجنبية، فكان نظره الى الغرب من زاويتي عينيها قبل محاججته الفكرية. ولعلّ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين- هو أفضل مثال لذلك. ويمكن تشخيص الحالة تبعاً إليه:
1- أسرة ريفية بسيطة متدينة.
2- نشأة أزهرية صارمة استغرقت كل سنوات دراسته وتعليمه حتى الحصول على – العالمية-!.
3- الانتقال الى باريس في بعثة دراسية؛ ومن الأفضل تشريح هذا الانتقال على عدة صعد:
أـ- التحول البيئي من بيئة شرقية – متخلفة- الى باريس التي كانت يومذاك قبلة العالم في كل شيء.
ب ـ التحول الفكري من تربية أزهرية متزمتة الى أجواء حرية فكرية.
ج ـ التحول النفسي والعاطفي من بيئة إجتماعية محافظة الى مجتمع مفتوح تزاحم فيه النساء الرجال.
د ـ علاقته في المجتمع الجديد ودراسته كانت من خلال فتاة فرنسية بدأت مساعدة له في الدراسة وانتهت حبيبة وزوجة.
4- تتمثل في حالته خاصتان انماز بهما عن غيره؛ فقدانه لبصره ودراسته الدينية في الأزهر.
وكان من أثر كل ذلك بروز ملامح جديدة لاتنسجم مع ثقافته الأزهرية الأولى أو ثقافة بلدة العامة. وشخصية طه حسين وطريقة تعامله وتأثره بالغرب تختلف عن الشاعر أحمد شوقي الذي نقل المسرحية الشعرية الى الأدب العربي دون أن يتنازل عن إنتمائه لتراثه، ونحن نذكر معارضاته الرائعة لعيون الشعر العربي. ويمكن تبرير ذلك بالفوارق المتعددة في السيرة الحياتية وفقاً للنقاط الآنفة. وتصحّ هذه الصورة – في قليل أو كثير- على معظم الذين أتموا تحصيلهم العلمي في أوربا، دون أن يستطيعوا نقل الصورة الصحيحة الوطنية أو الأجنبية الواحد للآخر. ولعلّ المجتمع الجامعي والانشغال بالدراسة، أتاح لهم الاختلاط بجزء من المجتمع الغربي، ما يمكن اعتباره وسط المثقفين. وعدم تنوع خبراتهم المعيشية مع الطبقات الأخرى للتعرف على مستوياتها المعيشية وطرائق تفكيرها. كما أن نظرة المجتمع اليهم كطلبة جامعة أو دراسات عليا أو مجرد سياح أثرياء، غيرها الى العربي المهاجر الباحث عن فرصة العمل أو الاقامة غير المؤقتة. وما تزال مكتبتنا الثقافية تفتقر الىالدراسات التحليلة الانتقادية التي تتصدى لدراسة الأفكار والشخصيات خارج إطار المجاملة أو الهجوم المقصود. وهي حاجة فكرية وحضارية سوف تسعفنا كثيراً وتلخص لنا طريق الوصول الى الخطاب الثقافي المعاصر أو الهوية الثقافية المستقلة.
الترجمة.. لدى معظم المشتغلين بها تعني نقل الآخر. أي النقل عن اللغات الأجنبية. أما تحديد المختارات وترشيحها للنقل فقد اعتمد الاستسهال.. أي أنه لم يتصدّ للبحث ونادراً ما يستند ذلك الى دراسة ممحصة لتأريخ وثقافة البلد، وبالتالي معرفة دقيقة في تحديد – ماذا ولماذا – ينبغي نقل هذا الكتاب للعربية. المسألة متروكة إجمالاً للشهرة، شهرة الكاتب في لغته الأصلية؛ ومن هنا يمكن تصنيف المتَرجَمين أو المنقولين للعربية بأحد صنفين: مشاهير الكتاب عند شعوبهم ومعظمهم في هذه الحال ينتمون الى عهود غابرة، أمثال شكسبير وغوته وشيللر وهولدرلن وبلزاك وهوغو ودستوفسكي وتولستوي؛ أو المعاصرين الذين حظوا بشهرة لافتة من خلال حصولهم على جوائز أو تصدرهم قوائم المبيعات، والترجمة في هذه الحال تنسجم مع سياسة السوق. فالمترجم لا يجازف بترجمة كاتب معاصر غير مسنود الشهرة، وفي هذه السبيل وقعت ترجمة الحاصلين على جائزة نوبل بينما لم يفطن لهم أحد من قبل. كأن يتصدى إثنان لترجمة (طبل صفيح) غونتر غراس فورحصوله على جائزة نوبل!. ولعلّ الضرورة تستدعي شروطاً أفضل وأكثر علمية من مجرد الشهرة السوقية أو اكتساب جائزة مشروطة بعوامل معينة (سياسية غالباً) ولا علاقة لها بالقيم الأدبية والفنية.
هذا يخدم مسألة أخرى ، هي إثارة إنبهار القارئ .. وهي هنا نقل الإنبهار من الصعيد الشخصي – للمترجم- الى (المجموع). وكان من أثر ذلك نشوء حالة إعجاب مسبقة لدى العربي بكل ما هو أجنبي، لأن ما ترجم إليه له مقومات تم اختبارها في اللغة الأم. لم يتصدَّ أحد لترجمة أديب معاصر له، أو كاتب أو شاعر شاب، لم يحظَ بشهرة مناسبة – قام أدباء المهجر الجدد في السنوات الأخيرة بترجمة زملاء لهم من أهل البلاد-. أما الموضوع الآخر والأكثر أهمية في هذا الجانب. فهو عدم تصدي المترجمين العرب خلال القرن الماضي بتقديم الأدب العربي للآخر. وبذلك لم يطلع الأوربيون على ثقافتنا المعاصرة ومنتجاتنا المعرفية الراهنة، مكتفين بما ترجمه المستشرقون من عينات التراث العربي وبما يلبي الذائقة الأوربية. أي أنه لم تجرِ ترجمة أمينة أو علمية كما يقال لأعمال كاملة وإنما تأكيد ما يدعم وجهة النظر الغربية عن العرب. تلك النظرة المحددة في [نفط/ تعدد النساء (الحريم)/ اسلام]، نظرة تعتمد سوء الفهم وليس الموضوعية أو العلمية. وفي حين لا يعرف الأوربي شيئاً ذا بال عن تراث العرب وثقافتهم المعاصرة فان الواقع العربي كما يُتناقَل إليه عبر وسائل الاعلام وعلى خلفية الصراع العربي الاسرائيلي؛ في ضوء التأييد الأوربي المطلق لكل ما يتعلق ياليهود على خلفية التركة النازية. وهكذا.. وقع العرب أمة ومجتمعات، وأفراداً مقيمين في المهاجر الاوربية، ضحايا مزدوجة لسلسلة طويلة ومتشابكة من العوامل. ومن الطريف.. أن لا يثيرهذا الوضع إهتمام جهة ما عربية رسمية أو غير رسمية، ويبقى في حدود معاناة أفراد وجهات لا تلقى أي دعم في وجه السياسة الغربية المضادة.
ان طامتنا الكبرى متعددة الألوان والمستويات، وكل منها أفظع من الذي يليه. الصدق مع الذات والمشاعر الوطنية المخلصة أصبحت صوراً للعار عند البعض؛ عندما ينضمّ.. الى جانب مرتزقة السياسة وجواسيس المخابرات الغربية، نفر يبيعون أصواتهم للدعاية المضادّة ويؤلفون كتباً ومقالات تبوِّق للدعاية الأمريكية والصهيونية، ثم يشكو أحدهم وعينه تدمع على شاشة التلفاز الألماني، أنه تلقى تهديداً من قومه! لاحظ.. تهديداً من قومه.. على شاشة التلفاز الألماني الفضائية، لوضعه كتاباً يشوه صورة الاسلام!!..
هل الابتذال هو طريق الشهرة والمال. هل عليك أن تبيع نفسك للشيطان حتى تصبح من أهل الجاه والسلطان. ثمة نفر ممن يكتبون بلغة أجنبية. ولكنهم يتنكرون للمسؤولية الأخلاقية ويندفعون لدغدغة الغرائز الغربية، وإثارة الضدّية، بسرد حكايات التهتك الجنسي أيام الطفولة، وأمامنا مثالان، أحدهما من المغرب والآخر من العراق، واحد يكتب باللغة الفرنسية والآخر بالانجليزية. والكتابان موضع شهرة وتندر. كاتبة أخرى لم تجد غير استثمار الصورة الغربية المرسومة للمرأة المسلمة المفتقدة لأبسط الحقوق، وكان الثمن جائزة دور النشر الألمانية. قد يدعي البعض أنه نقل حالة واقعية جرت له مثلاً، ولكن هل يجوز له تعميم ذلك؟ في حالة التبادل هناك نزعة للتعميم، فالأجنبي عندما يخطئ، يتم وصم كل الاجانب بذلك. والكاتب الأجنبي الجيد المترجم للعربية يترك انطباعاً عن التفوق والامتياز الغربي.
لماذا لا يهتم الغرب إلا بالظواهر التي تسيء الى صور العرب والاسلام. بينما لا يجرؤ كائن من كان أن يشكّ في ما يتعلق باليهود، حتى لو كان أرقام ضحايا الهولوكوست، حتى لو كان ذلك الشخص هو أوربي وفرنسي وفيلسوف مثل جارودي. هذا ليس خروجاً عن الموضوع. وانما دخولاً في النصّ. لقد تعود البعض تجزئة الاشياء وفصل المتعلقات حتى يضيع الأمر. وهي طريقة غير ذكية في الهروب من المواجهة وانما نفعت الكثير، ولكنها أضرت بالأمة ضرراً لا يغفر لأحد دوره فيه، ولا يتوقع قدرة القرن الجديد على التصحيح؛ لأن الأوضاع تسير نحو الأسوأ، أصوات التصفيق العربي أصبحت أعلى وأعلى منها قبل عشر سنوات.
ان المسؤولية الأخلاقية تتطلب من الجيل الجديد من المترجمين، أن يبادروا الى تقديم ثقافة بلدانهم وأدب زملائهم للقارئ الغربي وبلغته، ليطلع.. ليس على منتوجنا الثقافي والمعرفي، وانما على صور معاناة ومطامح وحياة الشخصية العربية. ليعرفوا ان العربي لا يحتفظ في داره بمربط حريم، وان العرب لا يشربون النفط بدل الحليب في فطورهم!!.