فناء الدنيا

الموعظة ضرورة لا بد منها لإيقاظ النائمين، وتذكير الغافلين من البشر… وهي من أهم أساليب المدارس الإلهية التي حَمَلَ همَّها الأنبياء الكرام عليهم السلام.

ويُمكن للإنسان أن يتّعظ بعدة أمور منها، الاتعاظ بتقلبات الدنيا ومكرِها وغدرِها وخذلانها ومفاجآتها وبطشها، وكيف تجعل الغني فقيراً والصحيح عليلاً، والقويَّ ضعيفاً، والحاكم محكوماً… والحيَّ ميتاً، بين ليلة وضحاها.

إنّ أدنى نظرة الى تاريخ السابقين من الحكام والملوك وفراعنة الأرض تُثبتُ لنا ذلك… ننظر إلى آثارهم إلى قصورهم ودولهم وممالكهم وأموالهم ونسائهم… كما ننظر إلى مقابرهم ونتساءل: مَنْ منهم انتقل بإرادته وقراره، ورضى بموته على حياته؟… ومَنْ منهم لا يحسر على أعماله؟ ومَنْ منهم بقيَ ذكرهُ وعلا أثرهُ؟… وأخيراً: مَنْ منا يمكنه أن لا يلحق بهم ويُصبح كأحدهم؟.

يقول عليٌ (ع) في وصيته لابنه الحسن عليه السلام، وهي من أبرز الوصايا في نهج البلاغة المبارك، يقول فيها واعظاً له من غدر الدنيا ومكرها: " أحي قلبك بالموعظة… وذلَّله بذكر الموت.. وبصِّره فجائعَ الدنيا، وحذِّره صولة الدهر، وفُحشَ تقلُّب الليالي والأيام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكِّره بما أصاب مَنْ كان قبلك من الأولين، وسرْ في ديارهم وآثارهم، فأنظُرْ فيما فعلوا، وعمَّا انتقلوا، وأين حلُّوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد إنتقلوا عن الأحبة، وحلُّوا ديار الغربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلِحْ مثواك، ولا تبعْ آخرتك بدنياك …"

ثم، مَنْ قال أن الدنيا تدوم لبشر، ومَنْ يدَّعي ذلك؟! أو ليس مصيرُ الدنيا إلى فناء… وتحصيلها لا يكون إلا بعناء، ولا تستقر على حال؟، فالرفيع أصبح وضيعاً، والزعيم صار مسجوناً، والرئيس بات معدوماً…
وبقيت منازلُ ورحَلَ بانوها، وشمخت عماراتٌ ودُفن ساكنوها؟…وأيُّ جاه لم يتغير على صاحبه… وأيُّ سلطان لم ينقلب على مالكه؟ …فهي متقلِّبة من حال إلى حال…لا تدري أتدركُ آمالك أولاً أم آجالك؟…تُحققُ رغباتِك أم تسبقَُكَ منيَّتُك؟.

يقول علي(ع) في موعظةٍ له : ثم إن الدنيا دارُ فناءٍ وعناءٍ، وغِيرَ وعِبَر… فمن الفناء أن الدهر… يرمي الحيّ بالموت، والصحيح بالسّقَم، والناجي بالعطب، آكلٌ لا يشبع، وشاربٌ لا ينقع، ومن العناء ان المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكُنُ، ثم يخرُج إلى الله تعالى، لا مالاً حمل، ولا بناءً نقل … ومن عِبرها أن المرءَ يُشرفُ على أمله، فيقتطعُهُ حضورُ أجلِه، فلا أملٌ يُدرك، ولا مؤمَّلٌ يُترك…فسبحان الله، ما أقرب الحيَّ من الميت، للحقَاه به، وأبعدَ الميت من الحي لانقطاعه عنه …"

وإن لم تتعظ، يا أخي وحبيبي، من غيرك، أفلا تتعظُ من نفسك!…
وانت ترى تألُبَ الإخوان وتقلب الزمن عليك، وتبدُّلَ صحِتك بين يوم وأخيه، بل لا بل بين ساعة وأخرى…من الصحة الى المرض، ومن القوة إلى الوهن، لا تدري متى تُصاب ولا تعرف متى تضعف، فإذا انت عند الصباح تضحك وعند المساء تبكي، أو عند نومِك تهنأ وعند صباحك تشقى…وكم من قوم باتوا يضحكون وأصبحوا يبكون وينتحبون يقول عليٌ عليه السلام: " وبادروا بالأعمال عُمُراً ناكساً، ومرضاً حابساً أو موتاً خالساً، فإنَّ الموت هادم لذاِتكم، ومُكدِّرُ شهواتكم …"

ويقول (ع) : "أم ليس من نومتك يقظةٌ؟ أما ترحمُ من نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلرُبّما ترى الضاحِيَ من حرِّ الشمس فتُظلَّه، أو ترى المُبتَلى بألم وعزََّاكَ عن البكاء على نفسك، وهي أعزُّ الأنفسِ عليك …"

وفي غدر الدنيا وبلاء الجسد، يقول(ع): " وَلَهَي بما تعِدُكَ من نزول البلاء بجسمك، والنقص في قوتك، أصدقُ وأوفى من أن تكْذِبَك أو تغُرَّك "

من كتاب قبسات من نهج البلاغه ( لسماحة سامي خضره)

نسالكم الدعاء


سبحان الله و بحمده

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.